اصلاح الموضوع الثاني ، أبو الطيب المتنبي. ( فرض عربية دورة بكالوريا 2021)
الحماسة عند المتنبي:
الموضوع:" إن شعر الحماسة عند المتنبي بناء لنموذج قيمي منشود بأساليب مخصوصة في التعبير التصوير" .
حلِلْ هذا القول وناقشه معتمد شوهد دقيقة مما درست.
مقدمة حول شعر الحماسة عند المتنبي.
عرف الشعر العربي الحماسة منذ الجاهلية، واقترنت في الشعر الجاهلي وشعر صدر الإسلام بالفخر القبلي خاصة، وقد تحددت هذه الحماسة ضمن جملة من المعاني أهمها: الشجاعة والبطولة الحربية، ووصف الجيوش والسلاح، وتصوير المعارك ومشاهد القتال.
هذه المعاني الحماسية مثلت أحد المصادر المهمة التي اعتمدها شعراء الحماسة في العصور اللاحقة منذ أبي تمام وصولا إلى المتنبي وابن هانئ.
إشكالية
فكيف تعامل أبو الطيب مع هذا التراث الحماسي، وهل اكتفى بترديده أم تجاوزه وأضاف إليه؟
جوهر
قلنا إن شعر الحماسة عند أبي الطيب يتخلل مختلف الأغراض وخاصة منها المدح والرثاء والفخر؛ بمعنى أن الغرض يظل القوة الموجِّهة للقول وإن قامت بعض المدحيات مثلاً على الحماسة في مجملها. لكن هذه الملاحظة لا تنفي وجود خصائص مشتركة لشعر الحماسة عند المتنبي وإن اختلفت الأغراض والسياقات الشعرية إنشاء وتقبلاًَ. وربما كانت أبرز هذه الخصائص المشتركة ارتباط شعر الحماسة عند أبي الطيب بمؤثرات ذاتية تتعلق بتضخم الذات والاعتداد المبالغ
فيه بالنفس، وبمؤثرات موضوعية ترتبط بعصر المتنبي وخصوصية المرحلة التاريخية التي عاش فيها.
المؤثرات الذاتية:
لا يمكن في الحقيقة أن ننظر في حماسيات المتنبي بمعزل عن ذات أبي الطيب المتضخمة والمتعالية، في إيمانها بالقوة وبالفعل سبيلاً لتحقيق الأهداف. وهو ما انعكس في شعره تغنياً بالقوة والبطولة والشجاعة مُرَدِّداً في ذلك أغلب معاني الحماسة الجاهلية التي يختصرها مفهوم الفتوة، ولكن مع تحويل/ تحوير مهم ينتقل فيه مركز الثقل من الجماعة (القبيلة) إلى الفرد، وهو أمر يبدو جلياً في الفخر كما في بقية الأغراض. فعندما يقول أبو الطيب مفتخراً:
الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم
إنما يجعل من الضمير المتصل ني قطب البيت ومركزه، إليه تنشد معاني البطولة وحوله يدور العالم بأسره. وهو ضمير لا يُعبِّر عن ذاتٍ جمعيّة بقدر ما يعبِّر عن ذات متفرِّدة تجعل من تأكيد تفردّها فعل وجود. ذلك أن تحقيق الذات مرتبط بمدى نجاحها في إعلان تمايزها وبالتالي تميّزها، من ذلك قوله:
رِدِي حياض الردى يا نفس واتَّرِكي حياض خوف الردى للشاء والنَّعَمِ
فكل هذه المقابلات بين: يا نفس ≠ الشاء والنعم
حياض الردى ≠ حياض خوف الردى
رِدِي ≠ اتّركي
تؤكد هذه الرغبة في الفرادة/التفرد، وهي معنى مهم من معاني الحماسة عند المتنبي.
هذا الإيمان بالإنسان الفرد يتجلى أيضا في المدح والرثاء. فصورة الممدوح أو المرثي تظل في شعر المتنبي ذاتاً فرديةً بامتياز، ومهما تعلق الأمر بالكثرة والعدد كما هو الشأن في وصف الحرب وتحرك الجيوش وهول المعارك.. فإن هذه الكثرة تُختزَل في شخص الممدوح أو المرثي. فهو الذي يحقق النصر وعليه يتوقف سير المعركة بفضل شجاعته وصبره على المكاره وصواب رأيه وحسن تخطيطه.. يقول المتنبي في مدح سيف الدولة:
يُكلِّف سيف الدولة الجيشَ همّـهُ وقد عجزت عنه الجيوش الخضارم
ويطلبُ عند الناسِ ما عند نفسـه وذلـك مـا لا تدّعيـه الضراغـم
إن العلامة الأولى على تأكيد معنى الفردية في هذين البيتين هي التسمية (سيف الدولة)، ففي التسمية تحديد وتخصيص، وانطلاقاً من هذا التخصيص تنشأ في البيتين جملة من المقابلات التي تؤكد تميّز الممدوح وتُعمِّقُ فرديته وفرادته. إذ نجد مقابلة بين:
همّـه (همته) ≠ الجيوش الخضارم
نفسـه ≠ الناس
وهي مقابلة تقوم على ثنائية ضدية: مفرد/جمع، وتتعمّق من خلال الأفعال المنسوبة إلى الممدوح: يكلّف، يطلب في مقابل عجزت، ما لا تدعيه لتتحول المقابلة من ثنائية: مفرد/جمع إلى ثنائية: قدرة/عجز. فذات الممدوح تقوم رديفاً للقوة والقدرة والرغبة في الفعل، في حين تنهض الجماعة صورةً للضعف والعجز والتخاذل.
بهذا المعنى تبدو الحماسة عند أبي الطيب معقودة بالذات المفردة ومرتبطة بفلسفة المتنبي ونظرته للعالم في إيمانه بأن التاريخ يصنعه أفراد متميزون وإن عاندهم الحظ أحياناً كما حدث مع أبي الطيب نفسه.
المؤثرات الموضوعية أو الخارجية:
مثلما تلوّنت الحماسة عند المتنبي بقوة حضور الذات في شعره وتحوّلها إلى قوة موجّهة للقول، فإن طبيعة المرحلة التاريخية وخصوصية القرن الرابع للهجرة باعتباره القرن الذي شهد بداية التراجع الحضاري للدولة العربية الإسلامية، قد ساهم في تلوين شعر أبي الطيب الحماسي وصبغه بطابع خاص. فقد استشعر المتنبي الأخطار التي كانت تَحيقُ بأمته والتي كان أكثرها جلاء تهديد الروم للأقاليم الشمالية.
ولعل مواكبة المتنبي لهذا الصراع خلال إقامته عند سيف الدولة هو ما طبع شعره الحماسي بطابع ديني واضح تحوّل فيه صراع سيف الدولة مع الروم إلى صراع بين الكفر والإيمان، يقول المتنبي في مدح سيف الدولة:
ولستَ مليكاً هازماً لنظيره ولكنك التوحيد للشرك هازم
ولئن كان المتنبي في تأكيده على البعد الديني في الصراع يُعتبَرُ امتداداً لما كان بدأه أبو تمام، فإن أبا الطيب قد وسّع هذا المعنى وربطه بالبعد العروبي، فكان ذلك من أهم المعاني التي أضافها المتنبي لمعاني الحماسة المعروفة. بل إن هذا المعنى تحوّل في الكثير من مدحيات المتنبي ومرثياته، إلى الإطار الذي أصبح ينتظم بقية المعاني من إبراز للشجاعة وتصوير للحروب ووصف للجيوش…الخ.
بهذا المعنى فإن الدفاع عن الأوطان في وجه العدو الخارجي والدفاع عن العصبية العربية (بمعناها الحضاري الثقافي وليس بمعناها القبلي أو العرقي) في وجه نفوذ بقية القوميات داخل الدولة الإسلامية، مثّل أحد أهم معاني الحماسة في شعر المتنبي.
من السمات المهمة أيضاً لعصر المتنبي، والتي أثرت في شعره الحماسي، يمكن أن نشير إلى التحولات الاجتماعية التي شهدها مجتمع القرن الرابع، والتي جعلت من هذا العصر عصر التناقضات وانقلاب القيم؛ وهو ما يفسِّر من بعض الوجوه علاقة المتنبي المتوترة بواقعه، وانتشار مفاهيم الرفض والتمرد والغربة في شعره، فكان أقرب إلى البطل الذي يدافع عن قيم أصيلة في مجتمع متدهور بعبارة لوكاتش.
خاتمة حول شعر المتنبي،
ختاما يمكن القول بأن شعر المتنبي نتاج تداخل عدة مؤثرات ذاتية كالحمية العقائدية و الفتوة، و مؤثرات موضوعية تعلقت بالعصر الذي عاش فيه المتنبي. وهو ما أضفي طابع إنجذاب للشعر القديم الجاهلي وفي نفس الوقت تأصل في الواقع.
يمكنك الإطلاع علي تلخيص شعر الحماسة عند المتنبي من هنا